من إنقاذ جندي إسرائيلي ….
لعدم الايمان بأن هناك أي سياسي إسرائيلي يريد السلام.

الطريق الطويل إلى الحرية.

منذ اللحظة التي ولدت فيها، قيل لي، ثم علموني، أن اسمي جمانة عودة من ليفتا. في البداية اعتقدت أن ليفتا فردا من أفراد عائلتي! كان تفكيري مشوش بهذا الخصوص وانا أفكر: “لكنني ولدت في القدس وأعيش في رام الله، فلماذا لا أقول: أنا من رام الله؟” ثم أخذنا أبي يوما إلى قرية حدودية بالقرب من القدس ليرينا ما هي ليڤتا، قريته، حيث ولد هو وجده وجد جده. تعلمت ان هناك معنى لكلمة “ليفتا”. فهي ببساطة تعني “الوطن” لأبي. بالنسبة لي أصبحت ليفتا حلما جميلا. تعني “المنزل مع شجرة اللوز” … تقع ليفتا على طريق القدس – تل ابيب السريع بجوار شارع مزدحم مليء بالسيارات. زرت لبنان في أحد الايام مع والدي ورأيت البحر لأول مرة في حياتي، بعدها بدأت أحلم بأن يوم ما بلدي الجميلة ليفتا سوف تتحرك في واحدة من السيارات التي رأيتها وتنتقل إلى شاطئ البحر. في عام 1967 كان عمري 11 عاما عندما سمعت والدي يقول: “لا، لن أترك بيتي مرة أخرى، كانت المرة الأولى كافية ليتم اقتلاعي من أرضي، آنا سأموت هنا …” لا أستطيع آن أنسي تلك اللحظات التي احتل فيها الجيش الإسرائيلي رام الله وكنت مختبئة تحت الأسرة مع إخوتي وأخواتي ننتظر أن نموت جميعنا تحت النيران الإسرائيلية الثقيلة …

حاولت بعد ذلك أن أعيش حياة “طبيعية” مع عائلتي، الذهاب إلى المدرسة واللعب ورقص دبكتي المفضلة والحلم بحياة أفضل. كنت لا أزال 12 عاما عندما شاركت للمرة الأولى في مظاهرة ضد الاحتلال الإسرائيلي ولا أستطيع أن أنسي الى هذه اللحظة الألم الذي شعرت به عندما ضربني جندي حتى فقدت الوعي. استغرق الأمر وقتا طويلا لكي أدرك لماذا ضربني هذا الجندي بهذه القسوة. قلبي الصغير المليء بالحب والمغفرة التي رباني والدي وأجدادي عليها، لم يستطيع فهم السبب. فبالنهاية، أنا لم أفعل أي شيء إلا القول بطريقة سلمية: “أنا لا أريدك هنا على أرضي”.

عندما كنت في الثامنة عشر من عمري، تركت بلدي لوحدي لدراسة الطب في الخارج بمنحة دراسية. كنت أسافر وأعود عبر الجسر إلى الأردن، وفي كل مرة عبرت الجسر شعرت بالإذلال ضدن الفلسطينيين من قبل المحتلون الإسرائيليون. في كل مرة كنت اعود إلى المنزل كان الجنود الإسرائيليون يتحدوني، في كل مرة كانوا يبقوني لعدة ساعات، انا والعديد من الطلاب والشباب الآخرين، ويسالوني الكثير من الأسئلة حول دراستي وأصدقائي وعن آرائي السياسية. كان جوابي في كل مرة بسيط جدا وهو أن رأيي السياسي هو أنني أحب الحرية وأكره المحتلين. مرة تم استجوابي لأنني كنت أقرأ كتابا وانا انتظر دوري. اوقفوني لمدة ساعتين فقط لأنني كنت أقرأ. كان الكتاب رواية لنجيب محفوظ. وأذكر أيضا كيف عوقب الجندي الإسرائيلي شموئيل على جسر اللنبي من قبل قائده بعد أن أعطاني القليل من الماء البارد بعد استجواب استمر لمدة 3 ساعات.

تخرجت من كلية الطب لأصبح طبيبة شابة وبدأت بالعمل في مستشفياتنا وتعلم ما لا تستطيع مدارس الطب تعليمه لي، كيف يكون العمل تحت الاحتلال العسكري والشعور بالإحباط الشديد لأن الكحول أو القطن أو الضمادات أو المضادات الحيوية الأساسية لمريضك الطفل الذي يموت كلها في حالة نفاذ. أو أن تواجه حالات من الشباب المصابين دون ان يتم تدريبك على التعامل مع “ضحايا الحرب”. تعلمت أنا وزملائي المعنى الحقيقي للصحة في أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والبشرية والنفسية والسياسية.

كان لا يزال لدي مساحة “للآخر”. كنت مناوبة في غرفة الطوارئ عندما وصل ضحايا الحادث المروري إلى المستشفى. لا يزال بإمكاني سماع صوت أم من المستوطنة الإسرائيلية التي تنادي ل “تينوك” (طفلها بالعبري). كنت ابكي حين حملت الطفل، وأخذته إلى أمه لإخبارها أنه بأمان. بقي الطفل معي حتى وصلت سيارة اسعاف اسرائيلية لأخذ الضحايا. ومرة أخرى، لم أستطيع أن أنسى عينيه اللتان تناديان الى المساعدة. كان جنديا إسرائيليا شابا هرب من المواجهة: شباب فلسطينيون يلقون الحجارة على جنود إسرائيليين اللذين يردون بإطلاق النار عليهم. كان هذا الجندي مصاب. عالجته وساعدته على الفرار إلى منطقة آمنة: لقد أنقذت حياته. ولا أندم على ذلك.

كان لا يزال لدي مساحة “للآخر”. حاولت دائما أن أرى الجانب الآخر من كل إسرائيلي التقيت به، بما في ذلك الجنود الإسرائيليين المتواجدون على العديد من نقاط التفتيش التي كان علي المرور منها أربع أو خمس مرات في اليوم، في طريقي للعمل كطبيبة أطفال في الضفة أو القدس الشرقية أو قطاع غزة. بل حاولت معرفة المزيد عن الشعب الإسرائيلي وثقافته ودينه ولغته. وأصبح لدي بعض الاصدقاء الاسرائيليين.

لمعرفة ما يعنيه العيش تحت الاحتلال، عليك أن تمر بهذه التجربة، عليك أن تعيش الاحتلال. وهذا يعني أن تعيش الإهانة والمضايقات في كل دقيقة. مياهك وكهربائك واقتصادك وحريتك في التحرك، حريتك في التعبير عن نفسك وعن أرضك كلها أمور تحت سيطرة قوة عسكرية أجنبية. العيش تحت الاحتلال يعني ترك منزلك للعمل بالصباح دون أن تعلم ما إذا كنت سوف تعود أم لا، ويعني أن أطفالك يذهبون إلى المدرسة وأنت لا تعرف ما إذا كنت سوف تراهم مرة أخرى أم لا. انت تستوعب الاحتلال في الأكسجين الذي تتنفسه والماء الذي تشربه والطعام الذي تأكله والأخبار التي تقرأها أو تشاهدها في نهاية اليوم. حاولت قصارى جهدي، ألا اتقبل الأمر ولكن أن أحاول العيش معه، للتكيف معه وإيجاد سبل لعيش “حياة طبيعية”، كما يقوم به الناس في جميع أنحاء العالم. أردت أن أعيش في سلام مع نفسي ومع عائلتي، وأن أكون صادقة مع بناتي. حاولت أن أشرح لبناتي عندما سألوني لماذا قتل جندي إسرائيلي ابن عمنا فادي في عام 1994 أننا في أزمة وأن فادي البالغ من العمر 16 عاما قد قتل على يد شخص إسرائيلي مجنون.

نعم، حاولت أن أكون نفسي والعيش للحب بدلا من الكراهية. ولكن بعد رؤية مقتل محمد الدرة البالغ من العمر 12 عاما بقسوة وبدون إحساس؛ وقراءة أن الجنيرال موفاز، الأب المتعلم المتحضر والديمقراطي، يعتقد أن محمد يستحق الموت لأنه كان يشارك في مظاهرات ضد المحتلين من قبل، أي عندما كان في السابعة من عمره! وسارة التي لم تبلغ من العمر سنتين، قتلت على يد مستوطن إسرائيلي! لماذا ا؟ وماذا يجب أن أقول لبناتي، عندما يسألوني “أمي هل يمكنك حمايتنا، والد محمد ووالد سارة لم يتمكنوا من حمايتهم!” أو عندما تعرضت رام الله للقصف من قبل الطائرات العامودية، وبناتي وزملائهن شهدن كل ذلك وكان الامر مرعبا، أو عندما تخبرني ابنتي دانا البالغة من العمر 16 عاما: “لا، أمي، لن أغادر بيتي مرة أخرى”، لأن أجدادها اخذوها هي واختها للبقاء معهم ليكونوا مع أبناء عمومتهم في مكان آمن بعد تفجيرات رام الله؟ وتقول: “أود أن أسأل هؤلاء الجنود لماذا تقتلون الأطفال، هل يمكنكم الذهاب للنوم بعد ذلك، أليس لديكم أطفال؟ إذا سألوكم: أين كنتم، هل تخبرونهم بأنكم شاركتم في قتل سارة ومحمد ونزار والعديد من الأطفال الآخرين، ألا تظنون أن كل هؤلاء الأطفال لديهم أمهات وآباء مثلكم ويريدون أن يعانقوا وأن يحبوا تماما كما تفعلون أنتم وأطفالكم؟ ” أو عندما سألتني ابنتي تالا البالغة من العمر 11 عاما: “لماذا يا أمي يطلق المستوطنون النار علينا كل ليلة، لماذا يبدأن في وقت متأخر من الليل، أنا خائفة، لماذا يقتلون الأطفال؟” وهذا الامر صحيح فهناك مستوطنون يعيشون في مستوطنة على حافة رام الله، ويطلقون النار كل ليلة على 30،000 شخص في رام الله والبيرة. ماذا يريدون منا؟ أعتقد أن الرسالة التي يتم إرسالها لنا هي: اصمتوا يا أشباه البشر! هذه حالة من السلطة فوق العدالة وعلى الإنسانية وعلى السلام والغطرسة ضد الحضارة.

هذا هو ما أسفر عنه تحليل أعداد الضحايا وأنواع الإصابات، بعد ثلاثة أسابيع من الانتفاضة الحالية: 8٪ من جميع الشهداء هم من الأطفال. 10٪ من الجرحى هم من الأطفال. في يوم واحد، 23 أكتوبر 2000، توفي 15٪ من الجرحى؛ وكانت في البداية النسبة الإجمالية للجروح في الجزء العلوي من الجسم (القلب والرأس) 50.2٪، وارتفعت إلى 83.2٪ في الفترة الأخيرة. وارتفع استخدام الذخيرة الحية من 20.2٪ إلى 57.7٪، والآن إلى 82٪. 44٪ من الحالات الآن مصابون في الصدر و43٪ في الرأس (ما مجموعه 87٪)؛ 18٪ من جميع الجرحى في حالة وفاة سريرية أو يعانون من إصابات خطيرة أو شلل نصفي أو رباعي. ومن المرجح أن يبقى 20٪ من جميع الحالات مصابين بعجز دائم؛ يبلغ متوسط عمر جميع الشهداء أو الجرحى 21 سنة. هذه هي الإحصائيات التي تكمن وراء مخاوف بناتي وقناعاتي المتغيرة بشأن النوايا الإسرائيلية، والحالة الجماعية للصحة النفسية الإسرائيلية. والندبات النفسية التي سيتحملها شعبنا من المذابح الحالية لا تحصى: ماذا سيحدث لمجتمعنا بأكمله؟ تتحدث هذه الأرقام ببلاغة عن رغبتها في قتل الفلسطينيين بأعداد كبيرة. إنني أسمع وراء هذه الإحصاءات الباردة وصراخ بناتي، صدى صوت محمد الدرة، الذي يطالب بحماية شعبنا في القرن الحادي والعشرين؛ هذا النداء يجب أن يستجيب له كل من لا يزالوا يؤمنون بالبشرية.

ومن ناحية أخرى، من الواضح أن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية تقوم ببناء مجتمع مريض، وأنها ستواجه جيل كامل من الأشخاص المصابين بأمراض نفسية. هذا هو مصير الأطفال والشباب الذين يتعلمون فقط أن يتكلموا لغة القوة والعنف. وأخيرا: ليس لدي أي إجابة على أسئلة بناتي الكثيرة، لدعوة الإحصاءات، إلى نداء من محمد، إلا أننا: نحن مقاتلون من أجل الحرية.

بقلم د. جمانة عودة (دكتور في الطب وماجستير في الصحة العامة)
مدير مركز الطفل السعيد الفلسطيني
رام الله، تشرين الثاني 2000

:تلفاكس
970 – 2 – 2964482
970 – 2 – 2956865
972 – 52 – 578877

:بريد الكتروني
jumtala@yahoo.com
phcc99@palnet.com

ملاحظة: قدمت وزارة الصحة الفلسطينية الإحصاءات الواردة في هذه المادة.
ملاحظة: تعريف الطفل هو تعريف منظمة الصحة العالمية أي دون سن 18 عام.