لن أنسى يوما صوت أم الشهيد الشاب، وهي تخبرنا عن وفاة ابنها. لاحظت غيابه بعد وقت قليل من غروب الشمس. عادة يكون متواجد في ذلك الوقت. هرعت الى الخارج والرعب يملأ عينيها، صوتها المهتز يناشد الصخور لتخبرها عن طفلها. وبعد بضع دقائق، جاء أصدقائه يحملون الخبر الحزين عن فقدان ابنها. كانت ولازالت أم فلسطينية.

فقدت والدة زوجي أسامة، ابنها البالغ من العمر 23 عاما في لبنان عام 1982، قتله قناص إسرائيلي. في كل مرة رأيتها منذ ذلك الحين وأنا أتمنى أن تتغلب على حزنها. كل يوم كنت أظن أن الوقت سوف يساعدها على النسيان، كما يفعل الوقت مع الكثير من أحداث الحياة الأخرى. استمرت بإعطاء الحب لأطفالنا بقدر ما تستطيع: هناك في ثقافتنا مقولة “ما أغلى من الولد إلا ولد الولد”. لكنها لم تنس ابنها أبدا. نعم، كان لديها تسعة أطفال آخرين، لكنها كانت تقول إن لكل طفل مكانة خاصة في قلب الأم، ولا يمكن أبدا ملء هذا المكان من قبل أي شيء أو شخص آخر.

حاولت التأقلم مع حزنها حتى آخر لحظة من حياتها. في عام 1990، تم مقتلها بقنبلة غاز مسيل للدموع أطلقها الجنود الإسرائيليون في قريتها القريبة من القدس. انفجرت بالقرب من نافذة غرفة نومها “عن طريق الخطأ”، كما أوضح جيش الدفاع الإسرائيلي بعد وفاتها. استسلمت للأبخرة الثقيلة، مع حالة القلب الخطيرة التي كانت تعاني منها. أسوأ من ذلك كله، توفيت بألم عميق في قلبها لفقدان ابنها. هي ايضا ولدت فلسطينية وتوفيت فلسطينية.

الأمهات الفلسطينيات يذكرن تاريخ الولادة ووزن الطفل عند الولادة والخطوة الأولى والكلمة الأولى لكل طفل من أطفالهن. حتى لو كانت الأم أمية ولديها العديد من الأطفال، فهي نتذكر كل هذه التفاصيل. نحن ثمانية إخوة وأخوات. حافظت أمي على خصلة من شعرنا من قصتنا الأولى. ما زلت أذكر كيف أعطتني أمي ملفي عندما غادرت المنزل. فيه وجدت وصفة طبية من طبيب الأطفال عندما كنت أبلغ من العمر ثمانية أشهر. في وقت لاحق عملت معه عندما أصبحت أنا طبيبة. وأريته الوصفة البالغة من العمر 25 عاما. والدتي فلسطينية.

من خلال خبرتي ل 18 عاما مع الأمهات في جميع أنحاء الضفة الغربية وغزة، كان دائما لدي الانطباع بأنهن على وعي تام بصحة أطفالهن وسعادتهم، بغض النظر عن عددهن. وكطبيبة أطفال تعلمت من الامهات الكثير من الامور التي لا يمكن للمدارس الطبية أن تعلمني اياها، كالقضايا المتعلقة بثقافتنا وطريقتنا بالعيش.

لقد عرفت معنى الأمومة عندما أنجبت ابنتي الأولى خلال ولادة قيصرية، كما تفعل العديد من الأمهات في جميع أنحاء العالم. في بعض الأحيان نحن خائفون من الولادة، وخاصة بالطفل الأول. ما زلت أتذكر عندما وضعت دانا في غرفة غير غرفتي مع الأطفال حديثي الولادة الأخرين، وفي الليل قفزت من سريري عندما سمعتها تبكي. عرفت صوتها بين أصوات سبعة أطفال آخرين.

نحن الأمهات الفلسطينيات نرضع أطفالنا كما تفعل العديد من الأمهات في جميع أنحاء العالم. وأظهرت دراسة أجرتها اليونيسيف أن 97 ٪ منا يرضعون أطفالهن. أذكر مساعدة الأمهات على الولادة في أجزاء كثيرة من هذا العالم، من مختلف المجموعات العرقية وألوان الجلد المختلفة والثقافات المختلفة والأديان المختلفة. ولدت ابنتي الثانية تالا بولادة طبيعية. ولكن ما أتذكره بوضوح هو أن كل واحد منا شعر بنفس الألم والفرح. وأحيانا نموت أثناء الولادة، كما هو الحال في بلدان نامية أخرى. ولا يزال معدل وفيات الأمهات في فلسطين مرتفعا. لن أنسى أبدا ما حدث مرة وأنا عائدة إلى الوطن مع ابنتي البالغة من العمر 4 سنوات دانا، في رحلة على طائرة مستأجرة. كانت هي الطفلة الوحيدة، بالإضافة الى دانييلا، فتاة إسرائيلية من نفس العمر تقريبا. كان هناك خلل ما في الطائرة، وأصبحنا جميعا كالأسرة الواحدة في مواجهة الموت. كنا أنا ودانا الفلسطينيتين الوحيدتين. عندما هبطنا في مطار تل أبيب، تمسكتا دانا ودانييلا ببعض كالأخوات. بعد أن مررنا من مراقبة الجوازات، تم إيقافنا من قبل الأمن كحال جميع الفلسطينيين. الطفلتان اعترضتا واصدرتا ضجة، وسمح لهما بالمرور سويا، تماما كما مرتا من خلال تجربة الموت المحتمل معا.

لدي صديقة أمريكية وصديقة ألمانية وصديقة روسية وصديقة فرنسية. جميعنا بنفس العمر ونمارس نفس المهنة ولدينا أطفال بنفس العمر تقريبا. عندما قصفت المروحيات الإسرائيلية رام الله وبيت جالا وبيت ساحور، شهدنا جميعا نفس نبضات القلب المتسارعة والارتفاع بضغط الدم. والأهم من ذلك كله أننا كنا خائفين من أن يصاب أطفالنا بأذى. بيولوجيا، جميعا نفس الشيء، ولكن بعض الناس يعتقدون أنني أقل إنسانية من غيري من الأمهات، فقط لأنني فلسطينية.
أظهرت الدراسات التي أجريت على الأمهات الفلسطينيات أنهن، شأنهن شأن غيرهن من أفراد المجتمع، يعتمدن على مختلف الأيديولوجيات والهويات ونظم المعاني من أجل فهم من وماذا هم، خاصة في أوقات الأزمات. إن الواقع الثقافي والسياسي للفلسطينيين في ظل الاحتلال المطول والتعرض لمختلف أنواع العنف السياسي قد عزز فيهم البحث عن العزاء من ظروفهم القاسية وزودهم بالقوة والمعنى من خلال المعتقدات السياسية والدينية.

وفي هذا السياق، فأن “الشهادة” هي المعاناة اللازمة في كفاحهم السياسي المشروع؛ فإن مسيرتهم للمضي قدما والحفاظ على مقاومتهم الوطنية يغديها الايمان والمعتقدات الدينية في الجهاد والشهادة.

لماذا يدعي البعض أننا نرمي بأطفالنا إلى الشوارع ليتم قتلهم؟ هل نحب أطفالنا أقل لأننا نريد لهم أن يعيشوا حياة سعيدة في بلد حر؟ هذه المقولات هي بنظري، عنصرية، لأنها تصورنا على أننا دون البشر أو غير انسانيين.

وبدلا من اتهام الأمهات الفلسطينيات بأنهم ليسوا أمهات، أعتقد أنه ينبغي لهؤلاء الناس أن يأخذوا بعين الاعتبار أن إسرائيل هي البلد الوحيد الذي لا يزال يحتل أرض شعب آخر في القرن الحادي والعشرين. وأن 99٪ من الشباب الذين يشاركون في الكفاح ضد المحتلين الإسرائيليين ولدوا في السنوات ال 33 الماضية، أي تحت الاحتلال. 100٪ هم من جيل الانتفاضة الأولى. وشهد أغلبيتهم جميع أشكال اعتداءات المحتلين، وشهد 42٪ منهم ضرب آبائهم أمام أعينهم، و92٪ منهم تعرضوا للغاز المسيل للدموع، و85٪ شهدوا غارات ليلية، و19٪ اعتقلوا و23٪ كانوا من المصابين.

وأظهرت الدراسات التي أجريت على الأطفال الفلسطينيين أن لديهم مفهوما ذاتيا إيجابيا واعتزازا بالنفس. لديهم أيضا فهم محدود لعواقب الموت، والعيش في ظروف خطيرة. ما الذي يمكن توقعه من جيل الحرب؟

نحن لا نريد أن نرى أطفالنا يعانون، نفضل أن نوجه كل هذا الغضب والخوف والكراهية إلى أمر بناء بدلا من مضر، ولكننا نصر على حق أطفالنا في العيش بكرامة وفي بلد حر. من يستطيع أن ينكرنا هذا الحق؟

وهذا يثير في ذهني ما حدث مع طفلتي الأصغر سنا، تالا. على الرغم من الوضع الصعب الذي كنا نعيشه، كانت تمضي وقتا طيبا بإعداد الفشار لبيعه في مناسبة مدرسية، ما يسمى “حفل الهدايا البيضاء”. وفجأة بدأ المستوطنون أو الجنود الإسرائيليون يقصفون الحي. نظرت في وجهي وقالت: “هذه ليست مزحة! انهم يطلقون النار ب 800 ملم وليس 500 ملم هذه المرة”. مثل الأطفال الفلسطينيين الآخرين، بدأت التفريق بين اصوات القذائف والرصاص المختلفة!

لسوء الحظ يصر الإسرائيليون على تعليم أطفالنا لغة الحرب بدلا من السلام!

د. جمانة عودة (دكتور في الطب وماجستير بالصحة العامة)
عيد الميلاد – 2000
مديرة مركز الطفل السعيد الفلسطيني.
جامعة القدس – كلية الطب، ومدرسة الصحة العامة.
البريد الإلكتروني: phcc99@palnet.com