هذا ليس عدلا!
كانت الطائرة مليئة بالمهاجرين الروس، جلس بجواري شاب روسي خجول. لم يكن يتحرك، وبالكاد كان يتنفس! على ما يبدو كانت هذه أول تجربة طيران له مع رحلة KLM من أمستردام إلى تل أبيب، أو قد يكون هذا عالم جديد بالنسبة له؟ أراد أن يشكر المضيفة عندما عرضت عليه الشراب، لكنه قال: سبا … ولم يجرؤ على انهاء الكلمة “سباسيبا”، التي تعني شكرا باللغة الروسية! لذلك تطوعت لإنهاء الجملة له!! بعد ذلك بدأت المحادثة بيننا. أنا بدأتها في الواقع، كسرت الحواجز والصمت والشعور بعدم اليقين. يبلغ الشاب من العمر 18 عام فقط، وهو قادم إلى اسرائيل وهو لا يعلم أين تقع على الخريطة! لا يعلم لأي درجة هو يهودي! قيل له أن جدته العظيمة قد تكون يهودية؟! لا يعرف أي لغة أخرى إلا الروسية، وهو حتى خجول من استخدامها! ليس لديه عمل حتى الآن! لا يعرف من هو؟! لا يعرف ما سيفعل في اسرائيل! لكنه قادم إلى إسرائيل!
فوفا بنفس عمر ابنتي، التي أوقفت مؤتمري في هولندا لحضور حفل تخرجها من المدرسة الثانوية. التخرج الذي كنت انتظره السنوات الثمانية عشر الماضية بصبر وصمت! استثمرت في تعليم وصحة وسلامة ورفاه ابنتي لثمانية عشر عاما. وقبل بضعة أيام فقط لم أكن متأكدة مما إذا كان هذا اليوم سيأتي أم لا، لأننا كنا جميعا تحت حظر التجول الصارم في رام الله لمدة شهر تقريبا. كان القصف مستمر ليلا ونهارا، ووضعنا تحت الإقامة الجبرية في منازلنا دون أن نعرف متى سينتهي هذا الوضع الرهيب! كانت دانا قلقة جدا على مستقبلها، الامتحانات الدولية النهائية ونجاحها! كنا جميعنا قلقين جدا، حزينين ونشعر بالعجز غير واثقين مما سيحدث غدا؟ ظننا لفترة من الوقت أننا قد نموت جميعنا! من يستطيع أن يتوقع ما يفعله شارون؟ ما حدث في جنين ونابلس يمكن أن يحدث في رام الله أيضا! من يمكنه ان يقدم ضمانا غير ذلك؟! وغدا ستتخرج دانا بعد أن تنهي امتحاناتها بنجاح، حتى أنها حصلت على منحة دراسية للدراسة في الولايات المتحدة (من مدرستها كويكر الحبيبة “مدرسة فرندز” التي ذهبت إليها لمدة 14 عاما).
يجب أن أكون سعيدة جدا ولكن لماذا اشعر بالمرارة! ماذا فعل بي هذا الصبي الروسي؟ لماذا لا أتقبله؟ هل لأنه قادم لتغيير الديموغرافيا في بلدي! لماذا ليس لدي نفس الشعور الذي كان لدي قبل أيام قليلة عندما التقيت بعدد من الجنود الإسرائيليون السابقون في القدس بعد برنامج خط الليلة على قناة ABC، الذي كنا نحضره سويا. في ذلك اليوم. أخبرني الجنود الشباب عن تجربتهم المحزنة مع الجيش الاسرائيلي في غزة، كانوا يشعرون بالمرارة من تلك التجربة، وهم يعتقدون أن ما تفعله حكومتهم للفلسطينيين جريمة حرب. كانوا راضين انهم على الأقل لم يقوموا بقتل أحد، لكنهم اعترفوا بأنهم للأسف قليلون، لكنهم يشعرون بأن عليهم التحدث، فقد أجرينا محادثة بناءة جدا وتقبلنا بعضنا البعض. لماذا كان لدي هذا الشعور السلمي واللطيف تجاه هؤلاء الشباب، خصوصا عندما طلب أحدهم الأذن بمناداتي “أمي”! شعرت أنه قريبا جدا، دون أي حواجز بيننا بأي شكل، شعرت كم يمكننا أن نكون انسانيين. لم أستطيع أن أرى سوى روح الإنسان والشباب والسلم في هؤلاء الشباب الإسرائيليين. شعرت بأنني أتفق مع أبنائي، وأننا كفلسطينيون وإسرائيليون نستحق العيش في سلام وكرامة بجانب بعضنا البعض، بغض النظر عن كل شيء!!
لماذا لا أستطيع تقبل فوفا؟ أعتقد أنني أعرف السبب بالتأكيد. أنا متأكد من مشاعري ويجب أن أخبره بذلك.
هل تعرف شيئا يا فوفا، ليس من العدل أن تأتي إلى بلدي وأنت لا تعلم شيئا عن هذه الأرض وهذه الثقافة وهذه اللغة في هذا الجزء من العالم. وغدا تصبح الشخص الذي لديه الحق في العيش في بلدي واستملاك مياه ابنتي، ومصادرة حديقتي الخاصة وقصف بيتي وتدمير مدرسة بناتي، وأنا وابنتي سنكون ضحايا عدوانكم. غدا قد تصبح الجندي الذي قد يقتل ابنتي الثمينة دانا، تحت أي اسم أو أي لون، غدا قد تخدم على نقطة تفتيش وتمنعني من الوصول إلى مرضاي! غدا يا فوفا سوف تصبح مغتصب، ولن تكون قادر على فهم أو تفسير ذلك؟
عزيزي فوفا، أنا لا أعتقد أن هذا أمر عادل، وأعتقد أنه من الأفضل أن تعود إلى وطنك ومنزلك، كما نقول باللغة الروسية: “فيسد تشوروشو، نو دوما لوشه”،
“ليس هناك مكان كالمنزل” !
د. جمانة عودة (دكتور في الطب وماجستير بالصحة العامة)
رام الله – أيار 2002
مديرة مركز الطفل السعيد الفلسطيني
البريد الإلكتروني: phcc99@palnet.com